في حقيقة الأمر هذه العبارة القرآنية ليست آية مستقلة بل جزء من آية
و قد وردت بهذه الصيغة في ثلاثة مواضع في القرآن الكريم: في سورة الأنعام
قال الله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام: من الآية91)، وفي
سورة الحج قال الله تعالى: (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ
اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج:74)، وفي سورة الزمر قال الله تعالى:
(وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر: 67.
و تكرّر هذه العبارة بنفس الصيغة دليل على عظم مكانتها و أهمية
معانيها إذ فيها ذمّ ضمني لمن لم يوقر الله عز و جل حق الوقار و يعظمه أجلّ
التعظيم كما ينبغي لجلال وجهه و عظيم سلطانه كما أنها تتضمن دعوة للتأمل
في عظمة الخالق التي لا تضاهيها عظمة مخلوق مهما بلغ من الجاه و القوة و
الجبروت. و قد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه و
سلم قرأ هذه الآية يوما وهو على المنبر: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ
قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
يُشْرِكُونَ) (الزمر:67)، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هكذا بيده
ويحركها يقبل بها ويدبر يمجد الرب نفسه أنا الجبار أنا المتكبر أنا الملك
أنا العزيز أنا الكريم فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا
ليخرّن به" و كان الرسول صلى الله عليه و سلم دائم التذكير لأصحابه بعظمة
الخالق و كان أخشاهم لربه لأنه أعلمهم به.
و إلى جانب استشعار عظمة الخالق سيستشعر المؤمن ضعفه كمخلوق لا حول
له و لا قوة إلا بربه وهو يوم يعي هذه الصفة سيجد ملاذه عند ربه فلا معين
له سواه و لا قائم على شؤونه سواه و لا قدرة له على فعل أبسط الأشياء إلا
بإذنه فهو سبحانه من شأن إلى شأن يفرج كربا و يزيل هما و يشفي سقيما و يعز
قوما و يذل آخرين و يرفع أناسا و يضع آخرين. يرزق الطيور في أوكارها و
الأسماك في بحارها و كل خلقه مفتقر إليه .و مما يستوجبه مقام الضعف هذا من
جانب المخلوق هو التذلل إلى الله رغبة فيما عنده و طمعا في مغفرته و رحمته
وقد أجاد القائل:
إن أنت يا رب لم ترحم ضراعتهم *** فليس يرحمــهم من بينهم أحد
فأنت وحدك تعطي الســــــائلين ولا *** ترد عن بابك المقصود من قصدوا
و لا شك أن التعظيم لله لا يكون بمجرد القول بل يجب أن يكون قولا و
فعلا و لا يكون ذلك إلا بالعلم بالله و بأسمائه و صفاته و ليس المقصود من
معرفة الله الإقرار بوجوده فهذا ما يفعله جميع الخلق مؤمنهم و كافرهم إلا
أن المعرفة الحقيقية بالله تستوجب الإقبال عليه و الامتثال لأوامره و
اجتناب نواهيه . معرفة الله تتطلب أن يجدك حيث أمرك ولا يجدك حيث نهاك . و
إذا عرفت ربك حق المعرفة ستجد نفسك لا تحب سواه و لا تمتثل إلا لأمره و لا
تحب إلا ما يرضاه من القول و الفعل. أما ارتكاب المعاصي فيصاحبه شيء من
الجهل بالله و غشاوة من الضلالة التي تحجب النور الإلهي عن قلبك و لا يرتكب
صاحب الذنب ذنبه إلا وقد غاب تقدير الله عن قلبه. فضعف عظمة الله في قلب
العبد هي التي تدفعه إلى ارتكاب المعاصي. وهنا كلمة نهمس بها في أذن كل
عاص- هدانا الله و إياه إلى سواء السبيل- يا من عصيت الله من أنت؟ نعم من
أنت؟ كيف تجد حالك بين الجبال والبحار و الأشجار و الأنهار؟ من أنت بجوار
هذه الأرض و ما حوت و هذه السماء و ما حوت؟ هل تعلم أنك مخلوق ضعيف لا حول
لك و لا قوة أمام عظمة الطبيعة فما بالك بخالق الطبيعة!!!! إن كانت هذه
المخلوقات العظيمة والتي نسميها طبيعة لا تقدر على عصيان أوامر ربها أوتجرؤ
أنت أيها الضعيف على التمرد و معصية الخالق؟:" ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى
السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا
أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِين" أو تطيع السماوات و الأرض ربها
مع عظم خلقتها و تعصاه أنت مع ضعف بنيتك؟؟ لا تنظر إلى صغر ذنبك بل انظر
إلى عظم من عصيت.
إن الحل الأمثل لاستشعار عظمة الخالق يكون بالتأمل في خلقه و التدبر
في آياته و التفكر في نعمه و التوكل عليه في كل شاردة وواردة و التسليم له و
الرضا بقضائه و تكون بذلك في طريقك على معرفة الله و نعوذ بالله من أن
نكون كمن قال فيهم رب العزة: و ما قدروا الله حق قدره .